أنه من المعلوم أن البكاء سمةٌ من سمات الإنسان وميزة فريدة من ميزات تباينه عن كثير من غيره من المخلوقات
والبكاء "مجرده" غير منافية للصبر أو الرضا بالقضاء والقدر وإنما هي طبيعة بشرية وجبلة أو عادة إنسانية لا حرج في إبرازها، وأن كان شجاعا أو بطل الابطال. وللدمع حال البكاء فوائدها النفسية والطبية والتي يعرفها كثير من الناس والمتخصصون في هذه المجالات
وفي التأريخ الإنساني هناك من اشتهر بكثرة البكاء حتى سميّ بالبكّاء، كما تفيد الأخبار في هذا الباب عن الرسول الأعظم وآله الأطهار(صلى الله عليهم أجمعين) بأن أبكى البكائين المعروفين والمشهورين في تاريخ العالم خمسة هم: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة وعلي بن الحسين عليهم السلام.
فأما آدم فقد بكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية من كثرة البكاء، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي في الليل وتسكت بالنهار وإما أن تبكي في النهار وتسكت في الليل فصالحهم على واحدة منهما.
وأما فاطمة فبكت على أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى ضجوا أهل المدينة من كثرة بكائها فقالوا لها قد آذيتنا بكثرة بكائك فصارت تخرج إلى مقابر الشهداء وتبكي وتبكي حتى تنصرف..
كما روي أن علياً قد بنى لها بيتاً خارج المدينة أطلق عليه بيت الأحزان، فكانت تخرج إليه والحسن عن يمينها والحسين عن شمالها فما يعودون إلا وقد قضوا حاجتهم من البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأما علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) فقد بكى أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام أو شراب إلا وبكى، حتى قال مولىً له (جعلت فداك يا ابن رسول الله! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين) قالإنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون! إني ما أذكر مصارع بني فاطمة، إلا خنقتي لذلك العبرة.
ولعمري، لقد قالها الحسين (عليه السلام) يوم قال: (لا يذكرني مؤمن إلا بكى (أو استعبر)
ولم يقصد الحسين (عليه السلام) بهذه الكلمة خصوص التعريف بأن قتله كان لأجل أن يبكي عليه فيستحق به الأجر في الآخرة بحيث لا يكون ثمة أثر آخر يترتب على قتله سوى البكاء عليه، كيف وهنالك أثار أخر أهمها إحياء شريعة الحق وتقويم ما اعوج من علم الهداية ونشر الإصلاح بين الأمة وتعريف الملأ بما عليه أمراء وحكام الجور من المفاسد أوالمطامع والأهواء التي لا تمت للإسلام أبدا بصلة قط
ولكن أراد (عليه السلام) أن يؤكد الصلة بين ذكرى مقتله الفظ والبكاء عليه وبين خشونة الارهاب للنواصب وحبهم للذات حتى وأن قتلوا جميع من على الارض والسماء - ونقيض طراوة الخير للخيرين ولاستمرار في بناء وتكوين الارض حتى وأن كانت التضحية بالنفس أو المال والاهل والولد. وان لوعة المصائب با الحسين (عليه السلام) وعيالة والبيت النبوي يوم عاشوره أبدا لا تنطفئ ومضيض الاستياء دائما لا ينفد، لاجتماع الكوارث علي بيت الرسالة وملاقاتهم لها بصدر رحيب لامثيل منذوا أن خلق الله الارض وما عليها من رعانة النواصب وقوة بطش الباطشين وصبر تعجبت منه ملائكة السماء , فأول ما يتأثر به السامع لها أن تستدر دموعه فلا يذكر الحسين (عليه السلام) إلا والدموع تسبق الذكر ولا يخفى أن له محبة خاصة ومودة كامنة في قلوب أحبائه وشيعته وهي مما يؤكد الصلة بين ذكره وبين البكاء عليه وفي قول جده (صلى الله عليه وآله) له " حسين مني وأنا من حسين , احب الله من أحب حسينا" العكس صحيح في من أبغض الحسين أو قتله وقتل عياله.
ولقد أهتم أئمة الهدى الأطهار (عليهم السلام) بتركيز هذا الجانب العاطفي الولائي من الثورة الحسينية أي اهتمام، حتى أثر عنهم الكثير من الأقوال والأفعال والتقريرات التي تحض المؤمنين على إشاعة حالة البكاء والتباكي لمن تتعسر عليه الدمعة لكنه لم يفقد التأثر النفسي لأجل المصاب فيقول الصادق (عليه السلام) (من تباكى فله الجنة) وقال جده المصطفى فيما يرويه جرير عنه أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (إني قارئ عليكم ألهاكم التكاثر، فمن بكى فله الجنة ومن تباكى فله الجنة وهذا الحديث وكثير من طرازه يدلنا على أن التباكي منبعث عن أحزان القلب وتأثر النفس كالبكاء لكن في باب الرهبة منه سبحانه، يكون الحزن والتأثر لأجل تصور ما يترتب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة فيتباعد عنه ويعمل ما يقربه إلى المولى زلفة. ً.
وفي باب تذكير مصائب آل بيت الرسول يستوجب بيان اللوم أو البغض لمن ناوأهم أوأوقع بهم وأساء . وهنا يشترك الباكي والمتباكي في إحراق القلب وتريث الذات وتأثر النفس لأجل تصور ما ورد من الظلم على أهل بيت النبي (عليهم السلام) ويشتركان في ألازمه وهو النفرة والتباعد عن كل من دفعهم عن مقامهم الذي أختصهم الله به.
أما سباب اهتمام الأئمة (عليهم السلام) وحثهم لشيعتهم على تكريس حالة البكاء خاصة أيام المحرم وصفر فلعله ناشئ عن الظروف القاهرة والتقية المكثفة التي عاشوها في ظل الحكومات الجائرة من بني أمية والعباس التي حجبت أنوار وعلوم وفضائل آل البيت (عليهم السلام) عن الأمة طيلة أحكامهم بالسيف والكرباج وجلاليب نفوس المسلمن لاعقولهم وأقعدتهم في دورهم وأوصدت عليهم أبواب الاجتماع بشيعتهم ومحبيهم فلاقوا منهم ضروب الأذى والتنكيل وابتعدوا إلا قليلا عن مسرح الحياة بانتظار المهدي عجل الله فرجه ً فآثروا العزلة على الخروج بالسيف في وجه دعاة الباطل مع ما يشاهدونه من تمادي أولئك في الطغيان والظلم لشيعة أمير المؤمنين وأبنائه وتتبعهم تحت كل حجر ومدر ومحاولة إبادت العلويين من جيل الى جيل وكلما أستجد جديد وكان بمرأى علني منهم ومسمع كبناء المنصور والرشيد وغيرهم الاسطوانات على ذرية فاطمة (عليها السلام) ظلماً وعدوانا.ً
فكانوا تواليا بأبي وأمي سبيل الأئمة الوحيد والجهاد الأكبر هو تحريض شيعتهم على عقد المحافل لذكر حادثة الطف الخالدة وتواصل الاستياء والاحتجاج على ما هنالك من فجائع ومصائب وإسبال الدمع لكارثتها المؤلمة وأكثروا من بيان فضل ذلك إلى حد بعيد لأنهم علموا أن هذا هو العامل القوي لإبقاء الرابطة الدينية. فكانت الأئمة (عليهم السلام) يتحرون أساليب مختلفة من البيان توجب توجيه النفوس نحو التذكارات الحسينية لما لها من العلاقة التامة لحفظ المذهب عن الإندراس والنسيان ، يقول الباقر (عليه السلام): (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمورنا فأن ثالثهما وهو ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر فإن اجتماعكم ومذاكرتكم إحياؤنا وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا - أو لم يبين القران الكريم في قوله لا أسألكم علية من أجر الا المودة في القربى . وهل تم تنفيذ ما أوصى به خاتم الرسالة والذي أخرجهم من الظلمات الى النور أم حاولوا تمزيق تراثه ( ولكن الله يأبى الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
ويقول الصادق (عليه السلام) للفضيل بن يسار: أتجلسون وتتحدثون؟ قال نعم فقال (عليه السلام) (أما وإني أحب تلك المجالس فأحيوا أمرنا، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب).
وهكذا فإن التذكارات الحسينية على اختلاف صورها من عقد العزاء والمآتم واللطم في الدور والمساجد والحسينيات أوفي الشوارع وتلاوة الشعر والمراثي والسجود لله على تربة كربلاء وسقي الماء على حب الحسين والزيارات العامة والخاصة وكثير مما يقيمه المسلون عامة والشيعة خاصة في كل مكان من شعائر ليوم عاشوراء لها خاصية وحرقة في القلوب لاتنفذ أبدا ولاتصداء مهما كان موقف المعاندين المتجبرين النواصب مما لها من معاني والمغازي التي قد يشكل صعوبة في فهمها والوقوف على أسرارها إلا لمن مارس كلامهم ودرس مقتضيات الأحوال وتتلمذ على باب مدينة علمهم لاحارة الكفر الضلام وفتاوي الجهل والانحراف.